رسالة في تفسير سورة الكوثر
رسالة في تفسير سورة الكوثر
الحمد لله الذي أضحك وأبكى وإليه وحده المنتهى، وصلى الله على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم، إمام الصابرين الشاكرين وقدوتهم، وسلّم تسليما كثيرًا.
أما بعد:
فإن سورة الكوثر على وجازة ألفاظها تحمل معان بليغة؛ يلتئم من دراسة سبب
نزولها وأحوال نزولها ومعاني آياتها، دروسًا عظيمة، يتزود بها السائر إلى
الله عز وجل، وتعينه على تخطي العقبات في طريقه، وقطع العلائق التي تحول
دون وصوله، فأردت بيانها في هذه الرسالة التفسيرية وأسأل الله التوفيق
والسداد.
قدّر الله العليم الحكيم أن يبتلي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بابتلاءات
شتى، منها وفاة جميع أبنائه الذكور في حياته؛ القاسم وعبد الله وإبراهيم،
وكان آخرهم وفاة ابنه إبراهيم؛ تُوفيَ القاسم وعبد الله ابنا خديجة في
مكة، وتُوفي إبراهيم ابن مارية القبطية في المدينة.
ووصف أنس بن مالك رضي الله عنه لحظة وفاة إبراهيم وموقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فقال: دخلنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرا لإبراهيم
عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبله، وشمه، ثم
دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول
الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». رواه البخاري.
وكان من عادة العرب الافتخار بالأبناء خاصة الذكور منهم، ويرون أن ذِكرَ المرءِ يبقى إذا كان له ولد.
وجاء في سبب نزول سورة الكوثر أن بعض كفار قريش وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمنبتر؛ لأنه لم يعش له ولد ذكر.
قال ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
" لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم،
قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا،
ونحن - يعني: أهل الحجيج، وأهل السدانة - قال: أنتم خير منه، فنزلت {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3]، ونزلت {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51] إلى قوله: {فلن تجد له نصيرا} [النساء: 52]". رواه النسائي وابن جرير ورواه البزار -كما في تفسير ابن كثير-، وصحّح ابن كثير رواية البزار.
ولم يرد تسمية قائل هذه المقولة في هذا الخبر،
ولكن وردت أخبار أخرى فيها تسمية العاص بن وائل السهمي، أو عقبة بن أبي
معيط، ويحتمل تعدد المواقف التي قيلت فيها هذه المقولة على النبي صلى الله
عليه وسلم، ويُحتمل أنهم كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالأبتر
بينما كان في مكة، ثم تكرر هذا الأمر بعد هجرته إلى المدينة، والله أعلم.
والثابت في نزول سورة الكوثر أنها نزلت في المدينة كما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال: بينا
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد؛ إذ أغفى
إغفاءةً، ثمّ رفع رأسه متبسّماً، قلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: «لقد أنزلت عليّ آنفاً سورةٌ» فقرأ: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم {إنّا أعطيناك الكوثر * فصلّ لربّك وانحر * إنّ شانئك هو الأبتر}». ثمّ قال: «أتدرون ما الكوثر؟». قلنا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «فإنّه
نهرٌ وعدنيه ربّي عزّ وجلّ، عليه خيرٌ كثيرٌ، وهو حوضٌ ترد عليه أمّتي
يوم القيامة، آنيته عدد النّجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: ربّ، إنّه من
أمّتي. فيقول: إنّك ما تدري ما أحدث بعدك». رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي واللفظ لمسلم.
فسبحان الذي أضحك وأبكى، وسبحان الرؤوف الرحيم،
انظروا كيف واسى الله عز وجل نبيه، حتى ضحك مع نزول هذه السورة، فأي منهج
جاءت به هذه السورة يمكن أن تواسي به حزنك، وترد بها على من عيّروك بما لا
حيلة لك فيه؟
لنستعرض تفسير آياتها لعلنا نهتدي بهديها.
قال الله عز وجل: {إنّا أعطيناك الكوثر}
جاءت هذه الآية بضمير المتكلم للجمع (نا)، والمقصود به الله عز وجل، تكلم عن نفسه بضمير الجميع تعظيمًا له، وتعظيمًا للنعمة التي أعطاها نبيه صلى الله عليه وسلم.
وجاءت الآية بخطاب مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا وتكريمًا له.
فما هو الكوثر؟
الكوثر كلمة في اللغة تأتي على معنى المبالغة من الكثرة، فهي وصفٌ للخير الكثير، وجاء في تفسير المراد بها معنيان صحيحان:
الأول: أنه نهر الكوثر الذي أعده الله عز وجل لنبيه في الجنة، ومن
هذا النهر ينصب الحوض الذي هو خارج الجنة، والذي أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أن المؤمنين يشربون منه شربة لا يظمأون بعدها أبدًا وأنه يُردُّ عنه
من بدَّل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -والعياذ بالله-، وسيأتي تفصيل
الأحاديث التي وردت في وصف النهر والحوض.
والقول الثاني: أنه الخير الكثير الذي أعطاه
الله للنبي صلى الله عليه وسلم منها -على سبيل المثال-: النبوة والقرآن
وانشراح الصدر ورفعة الذكر وكثرة الأتباع والنصر على الأعداء والتمكين في
الأرض والشفاعة، ومنها نهر الكوثر الذي وعد الله نبيه به في الجنة.
عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ -رضي اللّه عنهما-، أنّه قال: «في الكوثر: هو الخير الّذي أعطاه اللّه إيّاه» ، قال أبو بشرٍ: قلت لسعيد بن جبيرٍ: فإنّ النّاس يزعمون أنّه نهرٌ في الجنّة، فقال سعيدٌ: "النّهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه اللّه إيّاه". رواه البخاري.
وجاءت هذه الآية: (إنّا أعطيناك الكوثر) مؤكدة بـ: (إنَّ)
ردًا على المشركين الذين عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمزوه بما
لا حيلة له فيه من وفاة أبنائه، وردًا على المنافقين وكل من يظن أن في هذا
مما يعيب النبي صلى الله عليه وسلم، وقصدهم صد الناس عن دين الله عز وجل.
وجاء التعبير بالفعل الماضي (أعطيناك)
رغم أن بعض هذه النعم سيتحقق مستقبلا مثل نهر الكوثر، تأكيدًا على
تحققها؛ فإن العرب إذا أرادوا التأكيد على تحقق أمر في المستقبل عبروا عنه
بصيغة الماضي.
فجاءت هذه الآية لبيان منة الله عز وجل على نبيه وفضله وتكريمه له، ثم جاء بعدها الأمر بقوله تعالى: {فصلّ لربك وانحر}
والمناسبة بين هذا الأمر والآية قبله، أن من شكر الله عز وجل على نعمه، إخلاص العبادة لله وحده وأداء حق الله عز وجل.
وقال الله عز وجل: {فصل لربّك}، فوصف نفسه بصفة الربوبية وهي هنا من الربوبية الخاصة، ومعناها تربية عباده بالنعم والمنن وتوفيقهم للطاعات وشرح صدورهم لها والاعتناء بهم بتفريج كرباتهم.
وإضافة اسم الله الرب، لضمير المخاطب العائد على النبي صلى الله عليه وسلم {لربك}، فيه مزيد عناية وتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ الربوبية إيماء إلى أن الله وحده هو
المستحق للعبادة، فكما أنه وحده ربكم الذي خلقكم ورزقككم ويدبر أموركم،
فاعبدوه وحده، وهذا تعريض بالمشركين الذين يشركون بالله عز وجل مع إيمانهم
بربوبيته.
والأمر بالصلاة في هذه الآية عامٌ في كل صلاة؛ فيشمل الصلوات المكتوبة، والنوافل.
ومعنى اللام في {لربك} للاختصاص، وفيه تأكيد على إخلاص العبادة لله عز وجل.
والنحر في اللغة يأتي على معنيين:
الأول: موضع القلادة من جسم الإنسان، قاله الراغب في المفردات والجوهري في الصحاح.
الثاني: الصدر، نقله أبو منصور الأزهري عن الليث، وقيل أعلى الصدر، قاله ابن سيدة.
وأما المقصود بالأمر بالنحر في هذه الآية يأتي على عدة معانٍ:
االقول الأول:
نحر
البدن وهي الإبل والبقر، والنحر هو الطعن في اللبة وهي المنطقة بين أسفل
الرقبة وأعلى الصدر، ويلحق به الذبح وهو قطع الحلقوم والودجين (عرقين في
الرقبة).
والنحر أفضل للإبل والذبح أفضل للبقر والغنم.
قال الشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري:
التعليقات ()